]الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : فإن مقدمة لقائنا هذا الشهر - شهر جمادى الأولى - أن نتكلم عن معاني هذه الخطبة التي تسمى : ( خطبة الحاجة ) ، والتي علمها النبي - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه - علمها أصحابه يبتدئون بها كل أمر باهتمام .
خطبة الحاجة : هي ما سمعتموه . ( الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ) .
فما معنى ( الحمد ) : ( الحمد ) : وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيمًا وإجلالاً ، فإذا وصفت ربك بالكمال فهذا هو الحمد ، لكن لا بد أن يكون مصحوبًا بالمحبة والتعظيم والإجلال ؛ لأنه إن لم يكن مصحوبًا بذلك سمي مدحًا لا حمدًا ، ومن ثمَّ نجد بعض الشعراء يمدحون بعض الأمراء مدحًا عظيمًا بالغًا ، لكن لو فتشت عن قلبه لوجدت أنه خالٍ من محبة هذا الأمير ، ولكنه يمدحه إما لرجاء منفعة أو لدفع مضرة .
أما حمدنا لله - عز وجل - فإنه حمد محبة وتعظيم وإجلال ، إذ أن محبة الله - تعالى - فوق كل محبة ، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوق محبة كل مخلوق ، ولهذا يجب علينا أن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما ، ويجب علينا أن تكون محبة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فوق محبة أنفسنا وأهلنا ووالدينا وأولادنا ؛ لأنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - هو أعظم الناس حقًا علينا : به هدانا الله . به أرشدنا . به دلنا على كل خير . به بين لنا كل شر . به نقتدي على منهاج ربنا - عز وجل - الموصل إلى دار كرامته ورضوانه .
فلهذا من لم يكن قلبه مملوءًا من محبة الله ورسوله . من لم يكن مقدمًا لمحبة الله ورسوله على من سواهما فليعلم أن في قلبه مرضًا ، وليحرص على أن يصحح هذا المرض .
قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) .
إذاً ، ( الحمد ) : هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم والإجلال ، هذا هو الحمد ، إذا كررت هذا الوصف سمي ثناءًا ، وعليه فالثناء تكرار وصف المحمود بالكمال ، ويدل على هذا الفرق ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : ( قال الله - تعالى - : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال : الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . قال : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . قال : مجدني عبدي ) .
تصور يا أخي ! يناجيك الله - عز وجل - وأنت في صلاتك ، يسمعك من فوق سبع سماوات ، ويرد عليك .
إذا قلت : الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قال الله : حمدني عبدي . إذا قلت : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قال : أثنى عليَّ عبدي . إذا قلت : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . قال : مجدني عبدي ) . والتمجيد : التعظيم .
فهل - نحن - نشعر ونحن نصلي بهذا ؟!!
الشكوى لله - عز وجل - ، أكثرنا وأكثر أوقاتنا أننا لا نشعر بهذا ، نقرأ الفاتحة على أنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها ، لكننا لا نشعر بهذه المعاني العظيمة أننا نناجي الله - سبحانه تعالى - .
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ : يقول الله - عز وجل - من فوق سماواته : حمدني عبدي !! من يشعر بهذا يجد لذة عظيمة للصلاة ، ويجد أن قلبه استنار بها ، وأنه خرج منها بقلب غير القلب الذي دخل فيها به .
( الحمد لله نحمده ) جملة : ( نحمده ) جملة فعلية ، ( والحمد لله ) جملة اسمية ، فجاءت الجملة الفعلية بعد الجملة الاسمية لتأكيد تكرار الحمد ، كأننا مستمرون بحمد الله - عز وجل - .
( ونستعينه ) : يعني : نطلب منه العون ، على أي شيء ؟
على كل شيء ، وأول وأولى ما يدخل في ذلك ما نحن فيه ، تقول : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . على كل شيء ، ومنها : أن نستعينك على أداء الصلاة على الوجه الذي يرضيك عنا ، وعندما تتكلم بهذه الخطبة فإنك تستعين الله - تعالى - على هذه الخطبة التي ستقولها وتسأله العون .
وفي الحديث : ( ليسأل أحدكم ربه حتى شراك نعله ) . استعن بالله في كل شيء ، إذا أردت أن تُقضى حاجتك فاستعن بالله في كل شيء ، لا تحقرن شيئًا ، حتى عند الوضوء . عند الخروج إلى المسجد . عند أي عمل اجعل قرينك الاستعانة بالله - عز وجل - .
( نستغفره ) : ومعني : ( نستغفره ) : نسأله المغفرة .
والمغفرة : هي ستر الذنب مع التجاوز عنه .
هذه المغفرة ، أن يستر الله عن عباده ذنبك وأن يعفو عنك هذا الذنب ، ومعلوم أن الإنسان له ذنوب بينه وبين الله ، ذنوب خفية في القلب ، وذنوب خفية في الجوارح ، لكن لا يعلم بها الناس .
أرأيتم لو أن الله كشفها لكانت محنة ، ولكن بحمد الله - عز وجل - أنه سترها عن العباد ، فأنت تسأل الله أن يغفر لك ، أي : أن يستر عليك الذنوب وأن يتجاوز عنك ، فانتبه لهذا المعنى .
أنت عندما تقول : أستغفر الله . تسأل الله شيئين هما : ستر الذنب ، والثاني : التجاوز عنه بحيث لا يعاقبك الله عليه ، ولهذا إذا كان يوم القيامة فإن الله - تعالى - يخلو بعبده المؤمن ، ويقول : ( فعلت كذا فعلت كذا حتى يقر ، ثم يقول الله - عز وجل - : قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ) . اللهم اغفر لنا .
( ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ) : نجد أن في كتب العلماء الذين يبدءونها بهذه الخطبة ( نستغفره ونتوب إليه ) ، ولكن بعد التحري لم نجد في الحديث : ( ونتوب إليه ) بل ( نستغفره ) ، وبعدها ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ) .
( نعوذ بالله من شرور أنفسنا ) : ( نعوذ ) بمعنى : نعتصم بالله من شرور أنفسنا ، وسؤالنا الآن : هل في النفس شر ؟
الجواب : نعم . في النفس شر ، قال الله - تعالى - : وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي .
والنفوس ثلاث : نفس شريرة : وهي الأمارة بالسوء . ونفس خيرة : وهي المطمئنة تأمر بالخير . ونفس لوامة .
وكلها مذكورة في القرآن : النفس الشريرة التي تأمر بالسوء مذكورة في سورة يوسف : وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ .
النفس المطمئنة الخيرة التي تأمر بالخير مذكورة في سورة الفجر : يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي .
النفس اللوامة مذكورة في سورة القيامة : لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ .
فهل النفس اللوامة غير النفسين : الخيرة والسيئة ، أو هي النفسان ؟
من العلماء من يقول : ( إنها نفس ثالثة ) ، ومنهم من يقول : ( بل هي وصف للنفسين السابقتين ) .
فمثلاً : النفس الخيرة تلومك متى ؟ إذا عملت سوءًا ، أو فرطت في واجب . تلومك .
النفس الشريرة تلومك متى ؟ إذا فعلت خيرًا ، أو تجنبت محرمًا ، لامتك : كيف تحجر على نفسك ؟ لماذا لم تتحرر ؟ لماذا لا تفعل كل ما تريد ؟ تقولها النفس الأمارة بالسوء .
أما النفس الخيرة فتلوم عند فعل الشر وترك الخير ، والنفس الأمارة بالعكس .
وأياً كان الأمر سواء كانت نفسًا ثالثة ، أو هي وصف للنفسين : الأمارة بالسوء والمطمئنة ، فإن للنفس الشريرة علامة ، ما علامتها ؟
علامتها : أنها تأمرك بالشر ، تأمرك بالكذب ، بالغيبة . بالغش . بالسرقة . بالزنا . بشرب الخمر . أي نفس هذه ؟
الشريرة التي تأمر بالسوء .
النفس الخيرة بالعكس ، تأمرك : بالخير . بالصلاة . بالذكر . بقراءة القرآن . بالصدقة . بغير ذلك مما يقرب إلى الله ، ونحن كلنا نجد في نفوسنا مصارعة بين هاتين النفسين ، والموفق من عصمه الله ووقاه شر نفسه ، ولهذا نحن نقول : ( نعوذ بالله من شرور أنفسنا ) فأنفسنا فيها شر ، إذا لم يعصمك الله - عز وجل - من شر نفسك هلكت . وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ .
( ومن سيئات أعمالنا ) : أيضًا : الأعمال السيئة لها آثار سيئة : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ .
والسيئة تجلب السيئة ، وتقود الإنسان إلى السيئة الأخرى قهرًا ، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله - : ( إن المعاصي بريد الكفر ) .
يعني : إذا هانت المعاصي في نفسك هانت الصغيرة ثم هانت الكبيرة ثم هون الكفر في نفسك ، فكفرت والعياذ بالله .
ولهذا يجب على الإنسان من حين أن يشعر بالمعصية أن يستغفر الله منها ، وأن يلجأ إلى الله - عز وجل - بالإنابة والتوبة حتى تمحى آثارها ، وحتى لا يختم على القلب ، وحتى لا يصل الإنسان إلى هذه الدرجة . بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ .
نسأل الله أن يصلح لنا ولكم العلانية والسريرة ، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
قاله العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين
- غفر الله لنا وله ولموتى المسلمين -
" سلسلة اللقاء الشهري " ( 22 )
تم التفريغ عصر السبت 26 ربيع الأول 1428 هـ
هذه تعليقات العلامة محمد صالح العثيمين على بعض الزيادات التي أحدثت .
- وبعض الناس يزيد فيها ( ونتوب إليه ) وبعضهم يزيد : ( ونستهديه ) وكل هذه لم ترد في الحديث ، بل الحديث : ( الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ) .
وهذه أيضًا يغيرها بعض الناس ويقول : ( ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا ) وهذا خطأ ، الذي يريد النص إما أن يحافظ عليه وإما أن يدعه ، أما أن يدخل فيه ما شاء ويخرج ما شاء فهذا لا ينبغي . " لقاء الباب المفتوح " : ( 179 ) .
- الألفاظ الواردة عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لا ينبغي أن يزاد في جوفها شيء ، كلمة ( نستهديه ) لم ترد في الحديث ، كلمة ( نتوب إليه ) لم ترد .
تقول : ( الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ) ، أما إذا انتهى الوارد فلا حرج أن تزيد ما ترى أنه مناسب ؛ لأن هناك فرقًا بين أن تكون الزيادة في جوف الوارد وأن تكون بعده . " لقاء الباب المفتوح " : ( 235 ) .
- ( ونستهديه ) فلم ترد في هذه الخطبة ، لكن بعض الناس يتصرف فيها يقول : ( ونستهديه ) ويقول : ( من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا ) ، ويعدل عن قوله : ( ومن يضلل فلا هادي له ) وهذا تصرف من بعض الناس ) . " اللقاء الشهري " : ( 22 )